مدونة حمود الباهلي

كيف تلقيتُ خبر هجمات 11 سبتمبر؟

١١ سبتمبر ٢٠٢٣

اشتركت البارحة في منصة نتفلكس بعد مقاطعة دامت سبعة أشهر! اقترحت على المنصة مسلسلا وثائقيا spy ops عن هجمات 11 سبتمبر، أو كما يحب أن يسموه مثقفو الشام والعراق: الحادي عشر من أيلول.

أول حلقة من الوثائقي لم تكن مشجعة، فضلا على أنها لم تأت بجديد بالنسبة لي، فقد سردت الحادثة من وجهة نظر واحدة، و هذا لا يعتبر عملا وثائقيا، و إنما وسيلة لتثبيت وجهة نظر واحدة. من العجيب أن الأمريكان أكثر شعوب الأرض تتحدث عن الحرية الإعلامية، والانفتاح وتقبل الآخر، لكن إذا جئت عن قضية حساسة لديهم، لا تجد ما كنت توعد به.

ذكرني الحلقة كيف تلقيت خبر هجمات سبتمبر، كنت حينها طالبا في السنة الأولى في جامعة البترول، لأن البعض يتحسس من اسمها، سوف اكتفي بذكر الجامعة.

سذاجة التلقي:

لم يمض على دخولي الجامعة سوى شهر أو شهرين، عندما حصلت الهجمات، دوامي ذلك الوقت يمتد من الثامنة صباحا حتى الخامسة عصرا، خرجت من البيت وقد نسيت الجوال، لم يكن الجوال ذا أهمية كبيرة ذلك الوقت، فلم يكن متصلا بالانترنت بعد، بل حتى الانترنت نفسه، لم يكن يتوفر إلا بشق الأنفس، المواد المعروضة فيه، كلها نصوص.

بعد أن انتهيت من دوامي، ذهبت ألى مسجد في الخبر الشمالية، يقام فيه درس أسبوعي كل يوم ثلاثاء، يقيمه الشيخ ناصر الأحمد، درس في متن عقدي. خرجت من صلاة العشاء، وجدت صديقا يتحلق حوله مجموعة من الشباب، يرسم بيده شكلا، ثم يهدمه بيده الأخرى، و الشباب متعجبين، ثم يقول : لا ، باقي بعد، ثم يصور لهم ضربة أخرى.

تصورت حينها أنها مجرد موقف ظريف حصل له، لما وصلت البيت، قال أمي: وينك !! العالم مختبصة، انضربت أمريكا! وقفت أمام شاشة التلفاز مشدوها! أكن أعرف حينها ما البرجين، بل حتى حي منهاتن حلا أعرفه. من الغد، حضرت درسا شرعا للشيخ المنجد، سئل في اخره عن تعليقه عن الهجمات، فقال جاء الأثر عن النبي عليه الصلاة و السلام: ما ارتفع شيء في الدنيا، إلا وضعه”

وجهات نظر متناقضة: وفي اليوم الثاني للحادثة أيضًا، دخل مدرس لغة أمريكي في السنة التحضيرية إلى الفصل، واستقبله الطلاب بنظرات ممزوجة بالتبسم والشماتة. سألهم: هل الأمر مضحك؟ يُقتل أناس أبرياء وترون هذا مسليًا؟ أليس لديكم ذرة إنسانية؟ رد عليه طالب: “هل ما يفعله الصرب في البوسنة مسلٍّ؟ أو ما يرتكبه الصهاينة في فلسطين؟” يعكس هذا الحوار الموجز نظرتي آنذاك للعالمين الإسلامي والغربي.

لم نمتلك في البيت أي قناة فضائية غير عربية، ولكن أصدقائي أدوا واجبهم وحدثوني عن “مكر اليهود” لما عرضت قناة CNN مشاهد للعرب والمسلمين وهو يرقصون فرحًا على ما حصل. هذا منطق عجيب؛ لا مشكلة لديهم في الشماتة بموت الأبرياء، ولكنهم استشكلوا إظهارها وبثها.

وقد كانت جماعة الإعجاز العددي حاضرةً في المشهد أيضًا، إذ وجدت في الحادثة دليلًا جديدًا يدعم مزاعمها. تقول هذه الجماعة أنه في الجزء الحادي عشر من القرآن (وهو يوافق تاريخ يوم الحادثة) في السورة التاسعة من القرآن (يوافق الشهر) نجد قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍۢ فَٱنْهَارَ بِهِۦ فِى نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ} و رد عليهم الشيخ خالد السبت في سلسلة محاضرات عن الإعجاز العددي.

درّسني في السنة التحضيرية مدرس لغة أمريكي أسلم حديثًا. كان الطلاب يضغطون عليه للوقوف في صف المسلمين ضد أمريكا، فيرد عليهم بضحكة ويقول: “هي دولتي، أنا أمريكي قبل أن أكون مسلمًا”.

وقد سألني هذا المدرس مرة، ما المنطق في التفريق بين النساء اللاتي يسمح لك بالنظر إليهن و المحرم عليك؟ قلت: من تحرم عليك للأبد الزواج منها مثل الأم و الأخت من الرضاع و الخالة، يجوز لك النظر إليهن.

سبل مواجهة مختلفة:

من الأسئلة المطروحة بإلحاح آنذاك: ما السبيل للتعامل مع الغرب؟ ثمة تيارات مختلفة قياسًا على الجواب: تيار يرى بالمصالحة والتعاون مع الغرب، وقد وصف حينها بالتيار الانبطاحي، لو رجع بي الزمن لكنت من أفراده. أما التيار السائد آنذاك فقد كان يرى الخيار في مواجهة أمريكا. وقد انقسم فريق المواجهة إلى فريقين: فريق يرى المواجهة العسكرية. وفريق يرى المواجهة الحضارية عن طريق المقاطعة الاقتصادية. ولأن المنتجات الأمريكية كثيرة ومتنوعة! ولا يمكن مقاطعتها تمامًا، فقد نودي أولًا بمقاطعة المنتجات الثانوية.

أذكر أن طالبًا استأذن مدرس اللغة الإنجليزية في الجامعة وقال للطلاب بالعربية: “لدي حوار موجز: الأول: أنا البيبسي و كتكات وتوكس . ليش مقاطيعني؟ فرد عليه طالب آخر: : أنا …(وسرد عددًا من البدائل العربية المقابلة لها، وقد نسيت اسمها للأسف لأني لم أكن أتناولها)… ليش ما تشتريني؟” لما سأله المدرس عن فحوى ما قال، رد عليه: “أحسن لك ما تعرف!” وهذا الحوار الموجز جزء يسير من حملة إعلامية ضد المنتجات الأمريكية.

ذهبت مع مجموعة لأداء العمرة في ذروة حمى المقاطعة للمنتجات الأمريكية. كنا أربعة، ثلاثة قاطعوا المشروبات الغازية -وأنا منهم- وواحد لم يقاطع، وكان يردد: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}. وبينما كنا في الرحلة على الطريق، سأل اللامقاطع أحدنا: “وش السيارة اللي ناوي تشتريها؟” فرد صديقنا: “فورد”. فما كان من اللامقاطع إلا أن قال: “تبغان أقاطع قوطي بيبسي وأنت بتشري سبعين ألف قوطي؟” كان سعر الفورد ذلك الوقت سبعون ألف ريال.

تفسيرات متنوعة للحدث:

الهجمات كانت صدمة، خرجت عشرات التحليلات عنها، أبرز التحليلات بين وسطي في الجامعة:

  1. الهجمات لم تقع، كل ما رأيناه مجرد تلاعب في الصور! أخمن أن أنصار هذا القول لا يؤمنون بنزول الانسان للقمر أو حتى كروية الأرض.
  2. الهجمات وقعت، لكن سقوط البرجين ليس بسبب ارتطام الطائرات، و إنما تفجيرات داخل المبنى، أغلب من تناقش حول هذا الرأي، طلاب الهندسة الميكانيكية في الجامعة.
  3. الهجمات وقعت، لكنها بعلم الحكومة الأميركية، لتستخدمها حجة لغزو أفغانستان و العراق، و هذا الرأي كنت أميل له بقوة ذلك الوقت، لأني قرأت حينها مقالا أن حكومة أمريكا كانت تعلم زن اليابانيين كانوا يخططون لمهاجمة ميناء بيرل هاربر، و سهلت لهم المهمة، حتى تقنع الشعب الأمريكي بدخول الحرب العالمية الثانية. وقد قرأت في المرحلة الثانوية كتاب أحجار على رقعة الشطرنج، لذلك كنت مهيئًا لتقبل تفسيرات مؤامراتية مثل أن ثلاثة آلاف يهودي لم يداوموا في المبنى ذلك اليوم، وأن البرجين لم يسقطا بسبب ارتطام الطائرتين وإنما بسبب وجود متفجرات في المبنى.
  4. الهجمات وقعت بفعل مندسين لكن القاعدة بريئة، لهذا التحليل أنصار ذلك الوقت، لكن مع الزمن، تخلوا عنه، بعد إعلان القاعدة مسؤوليتها، أيضا ظهور أخبار متعددة أن بن لادن، كان يقنت القنوت في كل الصلوات قبل الهجمات بشهر.

سجالات المثقفين:

أثار العزم غزو أفغانستان وما تتبعه من قتل الأبرياء، اغتصاب النساء، استنكارا عالميا، فكتب 55 مثقفا أمريكا بيانا باسم على أي أساس نتقاتل، رد عليه مشايخ سعوديون عددهم 150 ببيان: على أي أساس نتسامح، كنت وقتها أؤمن بدور الفكر و المنطق في تسيير الحياة العامة، لكن تراجعت هذه القناعة أمام قناعة أخرى، ما يحرك الناس إلا مصالحهم، على اختلاف أنواعها.

لماذا نحتاج التاريخ؟

كنت مثل غيري تصوراتي عن الحدث ساذجة ومشوشة، مع الوقت تحسن إدراكي لها، و هذا ما يقوم به المؤرخ، فالمؤرخ لا يقدر أن يجعلك تعيش اللحظة الشعورية المصاحبة للحدث، لكنه قادر إذا أدى مهتمه بإتقان، أن يغربل التصورات الخاطئة المصاحبة للحدث، كما شبه د.عبدالسلام حيدر عمل المؤرخ مثل من يغسل الصابون، فهو يزيل الأوهام المصاحبة للحدث.



حمود الباهلي

حمود الباهلي - معد بودكاست لمحات. مهتم بالتاريخ والكتابة والسرد القصصي.