١٣ ديسمبر ٢٠٢٢
إن كانت أغلب الكتب المنتشرة في رفوف مكتبتك هي الأعلى مبيعًا لدى مكتبة جرير، وأغلب تفضيلاتك السينمائية مما هو رائج على نتفليكس، ووجهاتك السياحية المختارة مما اعتاد الناس التردد عليه، فعلى الأرجح أنك تفتقر للاستقلالية الذوقيّة.
لا بد من الاعتراف أن رحلة تكوين ذوق ثقافي خاص بك ليست رحلة سهلة، فهي تتطلب جهدًا يوميًا، ووعيًا حاضرًا لمقاومة المؤثرات الثقافية والضغوط الترندية الملحة حولك. لكن عوائدها إيجابية لشخصية الفرد واستقلاليته واتساقه مع ذاته، وأقلها أنه يجعلك مختلفًا عن غيرك!
كثيرون لو سئلوا عن أفضل شاعرٍ من القدماء لأجابوا بالمتنبي أو امرئ القيس، مع أن معظمهم لم يقرأ ولا ديوانًا شعريًا. ولو حصل ووقع اختيار بعضهم من متذوقي الشعر على جرير، ومن ثم ناولتهم أحد دواوينه وطلبت منهم اختيار أفضل قصيدة من وجهة نظرهم، فستكون اختياراتهم على الأرجح متباينةً على عددهم.
أستفتح بهذين المثالين للتدليل على ما قد يشوب خياراتنا الشخصية من تنميط ثقافي وتأطير على ضوء معطيات لسنا مدركين لها بالضرورة؛ ففي حين أن انتقاء القصائد المنفردة يميل للذائقة الشخصية أكثر، إلا أن تفضيل المتنبي أو امرئ القيس أو جرير نابعٌ من قولبة ثقافية مسبقة، وستكون هذه القولبة موضوع مقالتي القصيرة.
زعم أن القولبة الثقافية تجعلنا نحيد قليلًا عن اختيار ما هو أنسب لنا شخصيًا، وذلك من حيث أنها تجعلنا نفكر من خلال إطارٍ مسبق يؤطر حتى اختيار ما يناقضه. ولعل النكتة القائلة بأن شخصًا ذهب إلى إحدى البوفيات وطلب تشيز برگر بدون جبن مثالٌ مناسب على ما أقوله؛ فهذا الشخص يرغب في الحقيقة ببرگر عادي، ولكن الوصول إلى هذا الاختيار تطلب منه المرور بالتشيز برگر منقوصًا، أي بالتفكير عن طريق ما هو مضافٌ أصلًا.
وكذلك لو أعطينا ديوان جرير للشخص نفسه في فترات ومزاجيات متباينة، لوجدنا تقييمه واختياراته هي الأخرى غير ثابتة، وذلك عطفًا على حالته النفسية جراء وقوعه في الحب مثلًا أو جراء حنقه على شخصٍ ما. سوى أن ذلك لا يعني أنه سيفكر بالضرورة خارج إطار تفضيله لجرير بحد ذاته، وهو التفضيل الناتج عن التنميط الثقافي.
يؤدي بنا ذلك لاستنتاج مبدئي: إن التنوع منطقي وصحي. منطقي من باب أن لكل منا ذوقه الخاص، وصحي لأن الحياة ستكون مملة لو امتلكنا جميعًا الذوق نفسه. وليست التفضيلات الثقافية موضوعية ومبنية على قيمة العمل وحسب، بل هي أيضًا تنطلق من ذاتية تناول المنتج الثقافي، سواء كان رواية أو فيلمًا أو قصيدة أو منحوتة، إذ أننا سنتناولها من خلال تجاربنا وأذواقنا الشخصية. فكون روايةٍ ما نوبلية لا يعني أنها ستلاقي قبولًا عند الجميع.
أجرى عالم النفس الاجتماعي سليمان آش 📺 تجربة جميلة عن تأثير الجماعة على اختيارات الفرد. في التجربة، وضعت قبال المختبِر ورقة مرسومٌ عليها مجموعة خطوط متجاورة وخط متباعد عنها بعض الشيء، ومن ثم يُطلَب من المشارك اختيار أي خط من المجموعة يتطابق طوله مع الخط المنفصل.
أقيمت التجربة على مرحلتين. في المرحلة الأولى، يكون المشارك بمفرده، وقد بلغت نسبة الإجابات الصحيحة 99%. أما في المرحلة الثانية، يكون المشارك مع عددٍ من الأشخاص الذين يعتقد أنهم مشاركون حالهم حاله، ولكنهم في الحقيقة جزءٌ من التجربة. يقوم هؤلاء الأشخاص باختيار إجابة خاطئة بين الحين والآخر لتضليل المشاركين والتأثير عليهم، ثم يراقبون ما إذا كان المشارك سيحاكيهم أم أنه سيختار الاجابة التي تعبر عن ذاته بغض النظر عن اختيار تلك المجموعة. أجرى آش اختباره على كل شخص اثني عشرة مرة، وقد بلغت نسبة الإجابات الخاطئة هذه المرة 76%. أكثر من ثلثي المختبرين كذبوا حدسهم السليم واختاروا إجابة خاطئة تحت تأثير الأقران.
وإني إذ كتبت هذه المقالة القصيرة بعد نزول فيلم The Irishman 🎥 بفترة وجيزة، أتأمل في كمية الإعجاب والأصداء التي تلقاها ذلك الفيلم الطويل، في حين وجدته مستهلكًا وذا أداء رتيب. فهل كانا متولدين من الفيلم نفسه، أم كان للأسماء الشهيرة فيه ولدعاية نتفلكس الضخمة دورٌ أكبر؟ في كلتا الحالتين، لم أمتلك شجاعة إبداء رأي معارض له.
وقد تكرر موقف مشابه حين زرت متحف اللوڤر وتهت بين روائع الفن، وحرت في كيفية توزيع وقتي المخصص للمتحف (أربع ساعاتٍ إن لم تخني الذاكرة) على مختلف اللوحات. وعنى ذلك أن علي اختيار عدد محدد من اللوحات، والموناليزا ستكون بلا شك إحداها، فكيف تقول للناس أنك زرت اللوڤر ولم تقف عند الموناليزا؟
وحينما سألت أحد العاملين هناك كيف أجدها، أجابني بأن العثور عليها سهل، حيث أنها اللوحة الوحيدة التي يقف قبالها أكثر من ثلاثة أفراد. ولقد صح كلامه تمامًا، ففي حين لا يتجاوز عدد الواقفين أمام روائع الفن الموجودة هناك ثلاثة أو أربعة أشخاص، وجدت أمام الموناليزا أكثر من أربعين شخص يرفعون أياديهم محاولين التقاط صورة تذكارية، كأنهم متجمهرون أمام خباز رافعين أياديهم بالنقود منتظرين التميس. والعجيب أن في المتحف معروضات تفوق روعتها الموناليزا، من رسومات ومنحوتات، ولكن الهالة التي تحيط بها تجعلنا ضحايا القولبة الثقافية.
زاد تأثير القولبة الثقافية مع بروز مواقع التواصل الاجتماعي وسرعة انتشار التقييمات عبر الحسابات الشخصية. ولعلكم لاحظتم في تويتر ظاهرة غريبة: يثني أحدهم على مادة ثقافية، سواء كانت كتابًا أو مجلة أو حلقة بودكاست، قبل أن يطلع عليها فعلًا، والسبب في ذلك أن هنالك حملة تويترية من الثناء على هذه المادة. بل هناك من غرق في القولبة لدرجة أن ملكة الذوق السليم لديه باتت معطلة تمامًا.
ولا يعني ذلك تجاهل انطباعات وآراء الآخرين. فأنا شخصيًا أستفيد مثلًا مما يطرح في گودريدز أو IMDB في التعرف على الكتب أو الأفلام والمسلسلات الواقعة ضمن دائرة اهتماماتي. وثمة اعتبارٌ آخر في أن تقييمات المختصين في مجالٍ ما أفضل من غيرهم، إذ أنهم يبذلون جهدًا أكبر في التعمق بالمنتج الثقافي الواقع ضمن نطاق اهتمامهم. ولكن ذلك لا يعني بتاتًا أن يكون الفرد أسير تفضيلات المختصين أيضًا.
من خلال الطرح أعلاه، يتضح ما ذكرته في مقدمة المقالة أن تكوين الذوق الثقافي المستقل ليس سهلًا، وذلك عطفًا على تطلبه جهدًا ومقاومة مستمرين للتنميط الثقافي الصريح والمستتر. وأقول مجددًا أن ذلك يستحق، لا أقلًا لأنه سبب في اختلافنا عن الآخرين، بل من باب أنه يجعلنا نقتحم أبواب المجهول كذلك
حمود الباهلي - معد بودكاست لمحات. مهتم بالتاريخ والكتابة والسرد القصصي.